1:00 thoughts AM .
وكأن الليل ينتظر تلك اللحظة التي تجمعك به، لكي تقول له كل شيء ولا شيء. مشاعر خام، لا تتشكل إلا بحضور الليل، ولا يُستلذ بها إلا في سكونه. أشبهه بذلك الشخص الذي يمسك عليك أمراً، وينتظر اللحظة المناسبة لتعترفي له. لا مفر منه، لأنه لا يكتفي بالصمت، بل يصر على سماع الحقيقة منك. حينها وأنا صامتة، كانت أفكاري وكأنها جالسة في زاوية من ذهني، تراقبني بصمت، تنتظر لحظة شرود أو ضعف، لتحيط بي من كل جانب، وما ان فعلت، حتى أحاطت بي فعلاً، وجثمت على كتفي بثقلها، رافضة الرحيل. حاولت تحريكها لكنها أبت، اذ لم تكن تريد أن تمر مرور الكرام، بل أن تُلقى بعنف، أن ترتطم بجدار الواقع، لتثبت أنها حقيقية وليست شعورًا عابرًا، وهذه هي حقيقة الليل، وحقيقتنا التي نحاول سترها، حتى إذا جاء الصباح دسَسناها في ستائره، كأن شيئًا لم يكن. فلمَ لا نحتضن في الليل مشاعره كما نحتضن في الصباح مشاعره؟ فلكل ظرف زمني ألوانه وأحاسيسه، التي تفتح لنا أبوابًا مختلفة لنشعر بها ونتعايش معها. فأنا أحب الليل، وأحب الصباح، أحب الساعات المتأخرة من الليل، وأحب الساعات الأولى من الفجر، أحب كيف أكون في الليل عاطفية، منفتحة، رومانسية، أشتاق أحياناً " لحبيب مجهول" لا أدري من هو، "زي أغلب الناس آخر الليل، فجأة يصير الكل واقع في الحب". وفي الصباح، أكون متفائلة، منشرحة الصدر، كأنني صفحة جديدة في دفتر امتلأت صفحاته السابقة بسواد الحبر، كأن كل سطر كان سوادًا من ليل مضى، وما أن قلبت الصفحة، إذا بها بياض ناصع يشبه انقشاع الليل مع أول أنفاس الفجر. وكأنك أصبحت أنت القلم، تسير على بياض يوم جديد تخط حياتك بشغف وكأنها الصفحة الأولى.
لذلك، من أكثر الأشياء التي لا أحبهاهي وضع الشخص في قالب معيّن ثابت لا يتغيّر. أن تضع هذا الشخص في دور معيّن وتريده أن يستمر فيه، وإذا تغيّر تعتبره قد خانك ! يعني مثلًا (أنت الشخص العاقل)، إذًا خلك عاقل إلى أن تموت! أي مشاعر أخرى قد تبدو منه غير مقبولة، وكأنه آلة بلا مشاعر. لذلك، قاعدتي التي أمشي عليها وأقولها لأي شخص: "توقّع مني أي شيء." توقّع مني أني قد أُخطئ، أزعل، أصرخ، أبكي وهذا طبيعيي، لكن هنا يأتي دور الإنسان في تنظيم انفعالاته بطريقة صحيّة. فكل تلك المشاعر الغضب، الحزن، الانهيار، هي طبيعية، المهم فقط ألّا تسيّرك وتتحكم بك.
وربما لأنني أعلم وقع الغياب على النفس، أحاول أن أُحرر من أحب من فخ التعلق. لا أقول ذلك من باب الجفاء، بل من باب الرحمة، فالتعلق بالأشخاص مؤلم، لأنهم يتغيّرون، يُخذِلون، يرحلون، وأحيانًا يعجزون عن البقاء حتى لو أرادوا، ولا يمكننا منع ذلك، لأننا في الدنيا، وهذه من سنن الحياة. لذلك أؤمن أن أجمل علاقة هي تلك التي يكون فيها الحب موجود، لكن التعلّق غائبًا. نحبّ ونتقرّب، لكن نربط قلوبنا بالله وحده، لا بأحدٍ من خلقه، لأن الله وحده لا يغيب، ولا يتغيّر، ولا يخذل أبدًا سبحانه . وهنا أتذكّر موقفًا عظيمًا عند وفاة رسول الله ﷺ، حين وقف صاحبه ورفيقه الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه، الذي كان أقرب الناس إليه، وقال: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت." ربما كان أكثر من أحبّ النبي ﷺ ورافقه في كل حياته، ومع ذلك ثبّت الناس على المعنى الحقيقي للارتباط بالله وحده، لا بالأشخاص، ولو كانوا أعظم الخَلق. واعتقد أفضل ما يمكنك أن تقدّمه لشخص تحبه هو أن تتقبله كما هو، بكل ما يحمله من تناقضات وتقلّبات، ثم إن بدر منه ما يؤذيك، وجّهه بلطف، لا أن تقمع شعوره تمامًا أو تحمّله فوق طاقته. فكلّنا نمر بلحظات ضعف، بل إنّ من يدرك أن نفسه قد تخونه في لحظة، لولا تثبيت الله، سيتغيّر فهمه للأمور. ولهذا كان رسول الله ﷺ، وهو أشرف الخَلق، دائم الدعاء بتثبيت القلب، فيقول: "كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُكثرُ أن يقولَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثَبِّتْ قلبِي على دينِك فقلت يا نبيَّ اللهِ آمنَّا بك وبما جئتَ به فهل تخافُ علينا؟ قال نعم إن القلوبَ بينَ إصبعينِ من أصابعِ اللهِ يُقلِّبُها كيفَ يشاءُ
فإذا كان هذا حال الرسول ﷺ، فكيف بنا نحن؟
مَثلُ القلبِ مَثلُ الرِّيشةِ ، تُقلِّبُها الرِّياحُ بِفَلاةٍ
"مثَلُ القلْبِ"، أي: في تقلُّبِه وتغيُّرِه، "مثَلُ الرِّيشةِ تُقَلِّبُها الرِّياحُ"، والمُرادُ، أي: كالرِّيشةِ في وزْنِها وخِفَّتِها مع سُرعةِ استجابتِها لأيِّ رِيحٍ تمُرُّ بها، "بفَلاةٍ" وفي روايةٍ: "بأرضٍ فَلاةٍ"، أي: بأرضٍ خاليةٍ مِن العُمرانِ؛ إذِ الرِّياحُ فيها أكثَرُ جريًا وأسرَعُ في التَّأثيرِ، والمُرادُ: أنَّ القلْبَ في سُرعةِ تقلُّبِه يحكُمُه الابتلاءُ بخواطِرِه مرَّةً إلى باطلٍ، ومرَّةً إلى حقٍّ، وتارةً إلى خيرٍ، وتارةً إلى شرٍّ، ولذا جمَعَ "الرِّياحَ"؛ إشارةً إلى أنَّ وارِداتِ القلْبِ كثيرةٌ. قيل: وإنَّما كان كثيرَ التَّقلُّبِ؛ لأنَّ مَنزِلَه الإلهامُ والوسوسةُ؛ فهما أبدًا يَقْرَعانِه ويُلقِّنانِه، والقلْبُ مُتحيِّرٌ بين الهوى والهُدى، فهو دائمًا بين مُتناقضانِ ومُتحاربانِ، والخواطِرُ لا تَنقطِعُ عنه، والآفاتُ إليه أسرَعُ مِن جميعِ الأعضاءِ، فهو إلى الانقلابِ أقرَبُ.
وحتى في أول الدعاء (يا مقلب القلوب ) لو تأملناها : قلبك لن يثبت على حال واحدة ، وهذه من أكثر الأشياء التي تخيفيني، وقد تذكرت حديث النبي ﷺ أن الإنسان قد يكون مؤمنًا بالله طوال حياته، وفي آخر لحظاته يقلب حياته إلى المعاصي، والعكس صحيح. أسأل الله الثبات .
فوالَّذي لا إلَهَ غيرُهُ إنَّ أحدَكُم ليعملُ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ حتَّى ما يَكونُ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ ثمَّ يسبِقُ علَيهِ الكتابُ فيُختَمُ لَهُ بعملِ أَهْلِ النَّارِ فيدخلُها ، وإنَّ أحدَكُم ليعملُ بعملِ أَهْلِ النَّارِ حتَّى ما يَكونَ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ ثمَّ يسبِقُ علَيهِ الكتابُ فيُختَمُ لَهُ بعملِ أَهْلِ الجنَّةِ فيَدخلُها .
حتى أولئك الذين وقعوا في الكبائر – كالزنا مثلًا – لم يكونوا يتخيلون يومًا أنهم سيقعون فيها، فهم يدركون تمامًا العواقب، لكنها تبدأ بخواطر، بخطوات، ومداخل صغيرة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد. لهذا، لا أحد يضمن نفسه. أغلب الناس الذين عرفتهم كانوا يرددون "مستحيل أفعل هذا الشيء" ثم إذا بهم يقعون فيه. لماذا؟ لأنهم نسوا أنهم عبيد، وأن القلوب ملكٌ لله وحده. ولهذا علينا أن ندعو دائما "يا رب، سلّمني، ونجّني، وثبّت قلبي، ولا تفتني في ديني. " ثم لأنك – ببساطة – وضعت نفسك في وهم الكمال، أو ما يُعرف بـ perfectionism،
وهو – من وجهة نظري – أحد الأسباب الجوهرية لمعاناة الإنسان اليوم. اذ صار البعض يريد أن يتحكم في كل شيء مشاعره، والناس، والظروف، والعالم من حوله، كأن كل ما حوله يجب أن يسير وفق تصوّراته وتوقعاته. الأمر أشبه بأن ترتدي بذلتك الرسمية طوال اليوم، حتى وأنت في بيتك، بل وتنام بها! وبالنسبة لنا كفتيات، كأننا نرتدي كعبًا عاليًا، ضيقًا جدًا، لكنه جميل، نعدّ الساعات لنعود إلى المنزل ونخلعه، تخيل أن تظل طوال يومك بهذه الهيئة، دون أن تنال تلك التنهيدة العميقة بعد خلع الحذاء، أو لذّة الراحة بعد فك الزر، كأنك تعيش طول يومك مشدودًا، محرومًا من لحظة تنفّس حقيقية. من قال إن الاعتراف بالضعف ضعف؟ بل هو جوهر خلقنا، كما قال الله تعالى: "وخُلِق الإنسانُ ضعيفًا". ومن الشجاعة أن نعترف بنقصنا في هذا العالم، عالم يريدك أن تكون آلة بلا مشاعر. الرسول ﷺ، النبي الذي حُمّل أمانة هذه الرسالة العظيمة، والذي لم يكن يهدأ له بال، كان يعود إلى بيته ويسابق السيدة عائشة رضي الله عنها ويلاعبها. وعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، رمز الرجولة والهيبة ذلك الذي كانت تخشاه حتى الشياطين. إذاعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ الشيطان فَجًّا غَيْرَ فَجِّه، يقول عن نفسه: " ﺇﻧﻲ ﻷﻟﻌﺐ ﻣﻊ ﺯﻭﺟﺘﻲ ﻛﺎﻟﻄّﻔﻞ ﺍﻟﺼّﻐﻴﺮ، ﻓﺈﺫﺍ ﺟﺪّ ﺍﻟﺠﺪّ ﻭﺟﺪﺗﻨﻲ ﺭﺟﻼ". أما اليوم، فمفاهيم "الرجولة السامة" تريد من الرجل أن يكون حديديًا، لا يُعبّر، لا يضعف، ولا يُفصح عن مشاعره. وهنا تبرز أهمية من نختاره لمشاركة قلوبنا.
فنحن إذا رأينا من نحب يمرّ بضعفٍ أو حزن، نلجأ فورًا إلى محاولة "إصلاحه"، ونبدأ بقول الجملة الشهيرة (Iwanna fix Him)
كما لو أن مشاعره معطوبة وتحتاج إلى صيانة. لكن، حتى لو بادرتُ بحلّ أراه – من منظوري – مناسبًا، فقد يكون بالنسبة للطرف الآخر مدمّرًا تمامًا. وقد سمعتُ ذات مرة أحدهم يقول: عندما نرى أحدًا من أحبّائنا يمرّ بضائقة، نبدأ تلقائيًا في التصحيح والتعديل. لكن ما نحتاجه أولًا هو الرحمة. أن نتوقّف قليلًا ونتأمل، ما السبب الحقيقي خلف ما يمرّ به هذا الشخص؟ لأن بعض التصرفات والمشاعر ما هي إلا "أعراض"، تمامًا كأعراض المرض الجسدي؛ كالحمّى أو السعال، لا نُعالجها بذاتها، بل نبحث عن السبب الجذري الذي أدى إلى ظهورها.
And then, when you get the real answer, you will be able to deal with the root issue, not just the fruits.
وفي كثير من الأحيان، نحن لا نسعى حقًّا لمساعدة من نحب، بل نريد أن يعود إلى ما اعتدنا عليه منه، فقط لنشعر نحن بالارتياح. لا لشيء سوى أن مشاعره المربكة تُقلقنا نحن، فنحاول إسكاتها أو تعديلها كي نشعر بأن كل شيء بخير. لكن، هل سألنا أنفسنا: هل نريد مساعدته لأجله، أم لأجل راحتنا نحن؟ بل ربما ما نفعله يزيد من سوء شعوره دون أن ندري. وقد فعلتُ – شخصيًّا – أشياء كنت أظنها صحيحة، ثم أدركت لاحقًا أنني كنت أزيد الوضع سوءًا(أزيد الطين بلّة على قولتهم ). فتعلّمت أن أقول "أنا لا أعلم تمامًا ما الذي تحس به الآن، ولا أعلم حجم الألم الذي تمرّ به، لكني أحترم مشاعرك، وأتفهمها." توصّلت إلى قناعة مفادها أن أي شعور يمرّ به الإنسان، هو شعور مقدّس، حتى وإن بدا بسيطًا أو غير مهم في نظر الآخرين. رسولنا الكريم ﷺ واسى طفلًا حزينًا لفقد عصفوره، ولم يستخفّ بحزنه.
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل على أمِّ سليمٍ فرأَى أبا عُميرٍ حزينًا فقال يا أمَّ سليمٍ ما بالُ أبي عُميرٍ حزينًا قالت يا رسولَ اللهِ مات نغرُه فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا عُميرٍ ما فعل النُّغيرِ .
والنُّغَرُ: طائرٌ يُشْبِهُ العُصفورَ، أحمَرُ المِنقارِ، وقيل: هو العصفورُ، وقيل: هو العُصفورُ صَغيرُ المنقارِ أحمرُ الرَّأسِ، وقيل: أهلُ المدينةِ يُسَمُّونه البُلبلَ، "فجعَلَ يقولُ له: أبا عُمَير، ما فعَلَ النُّغَير؟!" يَقصِدُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك مُمازحةَ الغلامِ ومُضاحكَتَهُ؛ لِيَصرِفَ عنه الحزنَ الَّذي اعتراهُ، وفي ذلك مِن العَطْفِ والتَّواضُعِ وكرَمِ الأخلاقِ ما لا يَخْفَى .
لذلك سبحان الله، كلما جلس الإنسان مع نفسه أكثر، وتعرف إلى ذاته في مواضع الضعف خصوصًا، أصبح أكثر عطفًا ورحمة بالناس لأنه جرّب ذلك الإحساس، ولن يحكم عليهم كما كان يفعل في السابق، بل سيرحمهم. ونحن في زمن أصبحت القسوة هي الرمزية السائدة، شعارهم "كن قويًا دائمًا، ولا تستسلم، أنت في غابة، ويجب أن تأخذ حقك عنوة." أنا لست ضد القوة هنا، بل أقف تمامًا مع الحق، ومع أن يأخذ كل شخص حقه، بل إن الله يحب المؤمن القوي أكثر من الضعيف، لكن ما أردت توضيحه هنا أن الرحمة والإيثار أصبحتا صفتين شبه منقرضتين في عالمٍ يلهث خلف "الأنا". كل شيء بات بمقابل، كأن الذات أصبحت المحور، واتخذها البعض إلهًا.
ولو تأملنا في القرآن الكريم، لوجدنا أن الله سبحانه يريد أن يُجرّدنا من التعلّق بالأنانية. كما في قوله تعالى: "والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس"، فالعفو والصفح ثقيلان على النفس، ولا يُلهم بهما إلا ذو حظٍّ عظيم. وهذا يتطلّب قدرًا عاليًا من التضحية بـ "الأنا
" (ego)، وأن تنصت لحاجات الناس خارج نطاق رغباتك.
To listen to people’s needs outside your own ego.
وكذلك في قوله تعالى: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة"، وغيرها من الآيات العظيمة التي تحثّ على كبح جماح النفس وغرورها. وفي هذا العالم اليوم، إذا طبّقت هذه القيم، قد يصفك البعض بالضعف، وهم لا يعلمون أن هذه الأفعال هي منبع القوة الحقيقية.
مما توصلت إليه بعد محاولات كثيرة في الفهم والتجربة، أنني لا أستطيع دائمًا أن أقدم الحلول أو أغيّر مشاعر من أحب، لكن يمكنني أن أخلق له مساحة آمنة، مكانًا يشعر فيه بالأمان، سواء أراد أن يتكلم أو يصمت، وسأشاركه هذا الصمت. نعم، قد لا يحتاج الإنسان إلى الكلمات دائمًا، بل إلى صمت يُفهم، إلى صمتٍ يشعره بأنه غير مطالب بالشرح أو التبرير. هذا ما أسميه (الصمت الآمن) حين يصبح الصمت شكلًا من أشكال الاحتواء. هناك مشاعر لا تقدر اللغة على احتوائها، فيتكفّل الصمت بذلك، وأحيانًا، فقط السماح بأن يُظهر الإنسان ضعفه يكفي. حتى مشاركة البكاء في لحظة صدق قد تغيّر ما في القلب. أتذكر هنا السيدة الأنصارية مع السيدة عائشة رضي الله عنها، دخلت امرأة من الأنصار على عائشة - رضي الله عنها-في حادثة الإفك، وبكت معها كثيراً دون أن تنطق بكلمة. قالت عائشة : لا أنساها لها
. وعندما تاب اللهُ تعالى على كعبٍ بعدما تخلَّف عن تبوك ؛ دخل المسجدَ مستبشراً، فقام إليه طلحةُ يُهرول ثمّ احتضنه.قال كعب : لا أنساها لِـطلحة .
، وكان وقع ذلك عليه عظيمًا. مواقف الجبر في لحظات الانكسار لا تُنسى من يكونون معنا في البكاء، وفي الفرح، وفي الصمت، يتركون في داخلنا أثرًا لا يُنسى. التحية دائمًا لأولئك الذين يعملون في الخفاء، خلف الكواليس، بحبّ وصمت وصدق. لسنا بحاجة إلى عدد كبير من الناس حولنا، بل إلى أولئك الذين يفهمون متى يصمتون معنا، ويشعرون بثقل ما لا نقوله. فكما أن الفرح عزيز، فالحزن كذلك عزيز، ولا يجب أن يُلقى على قلب لا يستطيع أن يحتويه، بل وقد يستغله ضدك يومًا ما. وهنا تبدأ حكايتنا مع اختيار من نمنحهم حق الدخول إلى دواخلنا.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
"وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين." الله عز وجل أرسل إلينا رسولنا الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، رحمةً بنا، فكيف كنا سنصلي ونصوم ونعرف أحكام ديننا ونُحسن تطبيقها؟ لقد كان خُلقه، صلوات الله عليه، رحمةً خالصة للناس أجمعين، حتى وصفه ربّه في كتابه بقوله: "بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم." كان قبل وفاته، يردّد: "أمّتي أمّتي." وكان يقول "فقومٌ يأتونَ مِن بعدي يؤمنونَ بي ولم يروني" كان يحمل همّنا ويخشى علينا، صلوات الله وسلامه عليه. هذا ما يعلمه الله لنا، ويرسّخه فينا رسوله الكريم، أن نكون رحماء. في مواضع كثيرة من القرآن، ذَكر الله الرحمة، وأمرنا بالكلمة الطيبة "وقولوا للناس حُسنًا." حتى مع فرعون الطاغية، قال الله لموسى "فقولا له قولًا ليّنًا." بل حتى النظرة قد يحاسبنا الله عليها، كما في سورة "عبس"، حين عاتب الله نبيّه لأنه أعرض بنظره عن الأعمى، وهو أعمى، لا يرى أصلًا إن كان النبي قد التفت إليه أم لا، ولكن الله رأى، فإن لم يكن يراك أحد، فالله يراك. ويوسف عليه السلام، حين أساء إليه إخوته، أسرّها في نفسه، ولم ينسَها الله، بل حفظها وذكرها، فالله ربّنا، من معاني اسمه "الرب" أنه يربّينا ويهذّبنا، ويُعلّمنا كيف نكون رحماء ببعضنا. قال تعالى "رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا"، فجاء ذكر الرحمة قبل العبادة، لأنّ الدِّين هو الخُلق، وقال رسول الله ﷺ: "إنّ أحبّكم إليّ أحاسنكم أخلاقًا، الموطَّؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون." وحتى في يوم القيامة، لن ندخل الجنة بأعمالنا ولا بصدقاتنا ولا باجتهادنا، بل برحمة الله جلّ جلاله.
ختامًا
«مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم :وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»
نظراً للأوضاع المأساوية التي يشهدها أهلنا في غزة من مجاعة وقهر وتدمير، ومع عجز اليد وقلة الحيلة، يبقى في القلب رغبةٌ صادقة في المساعدة، ولو بالدعاء. أسأل الله أن يعجل بالنصر لإخواننا في غزة، ولجميع المستضعفين في بلاد المسلمين. وأودّ أن أنبّه كذلك إلى ما يعانيه أهلنا في بلدي السودان، وتحديدًا في مدينة الفاشر، من تجويعٍ متعمّد وقطعٍ للإمدادات. وبسبب ضعف التغطية الإعلامية، فإن كثيرًا من الناس لا يعلمون أصلًا ما الذي يجري هناك، وتقع الفاشر في قلب إقليم دارفور، وتُعد عاصمة ولاية شمال دارفور، ومركزا حيويا للتجارة والحراك السكاني بين الشمال والغرب. بدأ الحصار تدريجيا بقطع الدعم السريع لطرق الإمداد والتموين، وامتد إلى استهداف مراكز حيوية مثل الأسواق، والمستشفيات، ومقار الإغاثة، ثم تطور إلى قصف جوي ومدفعي على الأحياء السكنية.
الفاشر الآن تقف على حافة المجاعة.. انعدمت الأدوية، ونفدت المحروقات، وأُغلقت المدارس والمستشفيات! يمشي السكان عشرات الكيلومترات للحصول على الماء، في حين يُباع الخبز بأسعار تفوق قدرة أغلب الأسر.
وأنا من موقعي هذا أحاول أن أنشر الوعي والدعم، بما أستطيع، وأسأل الله القبول. لست هنا للمقارنة بين مصائب، ولكن الوجع واحد، والتجويع واحد، والقمع واحد، والألم في الجسد الإسلامي كله إذا اشتكى منه عضو. فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى." اللهم كن لهم عونًا ونصيرًا، وتجاوز عن تقصيرنا، وارحمهم برحمتك، يا أرحم الراحمين.
سأضع في الأسفل روابط موثوقة للتبرع ، من أشخاص أتابعهم وأثق فيهم :
غزّة 🇵🇸
السودان 🇸🇩